فصل: تفسير الآيات (116- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (111- 115):

{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)}.
يقولون: أنؤمن لك ونتبعك، ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك وصدقوك، وهم أراذلنا؛ ولهذا قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ. قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؟ أي: وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي، ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنه والبحث والفحص، إنما عليَّ أن أقبل منهم تصديقهم إياي، وأكل سرائرهم إلى الله، عز وجل.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}، كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ليتابعوه، فأبى عليهم ذلك، وقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وكنت منه، سواء كان شريفًا أو وضيعًا، أو جليلا أو حقيرًا.

.تفسير الآيات (116- 122):

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}.
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وجهرًا وإسرارًا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ، والامتناع الشديد، وقالوا في الآخر: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} أي: عن دعوتك إيانا إلى دينك يا نوح {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي: لنرجمنَّك. فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه، فقال {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، كما قال في الآية الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ. فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 10- 14].
وقال هاهنا {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}. والمشحون: هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيه من كل زوجين اثنين، أي: نجيناه ومن معه كلهم، وأغرقنا مَنْ كذبه وخالف أمره كلهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

.تفسير الآيات (123- 135):

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)}.
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود، عليه السلام، أنه دعا قومه عادًا، وكانوا قومًا يسكنون الأحقاف، وهي: جبال الرمل قريبًا من بلاد حضرموت متاخمة لبلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} [الأعراف: 69] وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب، والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والعيون، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرًا ونذيرًا، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته، فقال لهم كما قال نوح لقومه، إلى أن قال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}، اختلف المفسرون في الريع بما حاصله: أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة. تبنون هناك بناء محكما باهرًا هائلا؛ ولهذا قال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أي: معلما بناء مشهورًا، تعبثون، وإنما تفعلون ذلك عبثًا لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم، عليه السلام، ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم قال: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}. قال مجاهد: المصانع: البروج المشيدة، والبنيان المخلد. وفي رواية عنه: بروج الحمام.
وقال قتادة: هي مأخذ الماء. قال قتادة: وقرأ بعض القراء: {وتتخذون مصانع كأنكم خالدون}.
وفي القراءة المشهورة: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي: لكي تقيموا فيها أبدًا، وليس ذلك بحاصل لكم، بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم.
وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا الوليد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني عَوْن بن عبد الله بن عتبة، أن أبا الدرداء، رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغُوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.
وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي: اعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم.
ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، فما نفع فيهم.

.تفسير الآيات (136- 140):

{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له، بعدما حذرهم وأنذرهم، وَرَغَّبَهُم ورهبهم، وبيَّن لهم الحق ووضحه: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} أي: لا نرجع عما نحن فيه، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] وهكذا الأمر؛ فإن الله تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
وقولهم: {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ}: قرأ بعضهم: {إن هذا إلا خَلْق} بفتح الخاء وتسكين اللام.
قال ابن مسعود، والعوفي عن عبد الله بن عباس، وعلقمة، ومجاهد: يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين. كما قال المشركون من قريش: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 5]، وقال: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين} [الفرقان: 4، 5]، وقال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [النحل: 24].
وقرأ آخرون: {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ}- بضم الخاء واللام- يعنون: دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد. ونحن تابعون لهم، سالكون وراءهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد؛ ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ} يقول: دين الأولين. وقاله عكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي: فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، أي: ريحًا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدًا، فكان إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6، 7] وهم عاد الأولى، كما قال: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى} [النجم: 50]، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح. {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي: الذين كانوا يسكنون العمد. ومن زعم أن {إرم} مدينة، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب، وليس لذلك أصل أصيل. ولهذا قال: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8]، أي: لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يبن مثلها في البلاد، وقال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].
وقد قَدَّمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور، عتت على الخزنة، فأذن الله لها في ذلك، وسلكت وحصبت بلادهم، فحصبت كل شيء لهم، كما قال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} الآية [الأحقاف: 25]، وقال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 6، 7]، أي: كاملة {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، أي: بقوا أبدانًا بلا رؤوس؛
وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه، كأنهم أعجاز نخل منقعر. وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]؛ ولهذا قال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

.تفسير الآيات (141- 145):

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)}
وهذا إخبار من الله، عز وجل، عن عبده ورسوله صالح، عليه السلام: أنه بعثه إلى قوم ثمود، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحجْر، التي بين وادي القُرَى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة. وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غَزْوَ الشام، فوصل إلى تَبُوك، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك. وقد كانوا بعد عاد وقبل الخليل، عليه السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله، عز وجل، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه. فأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله، عز وجل، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال:

.تفسير الآيات (146- 152):

{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)}
يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة، وجعلهم في أمن من المحذورات. وأنبت لهم من الجنات، وأنبع لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات؛ ولهذا قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}. قال العوفي، عن ابن عباس: أينع وبَلَغ، فهو هضيم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} يقول: مُعشبة.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن أبي عمرو- وقد أدرك الصحابة- عن ابن عباس، في قوله: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: إذا رطُب واسترخى. رواه ابن أبي حاتم، قال: ورُوي عن أبي صالح نحو هذا.
وقال أبو إسحاق، عن أبي العلاء: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: هو المذنب من الرطب.
وقال مجاهد: هو الذي إذا كُبس تهشم وتفتت وتناثر.
وقال ابن جريج: سمعت عبد الكريم أبا أمية، سمعت مجاهدا يقول: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: حين يطلعُ تقبض عليه فتهضَمه، فهو من الرطب الهضيم، ومن اليابس الهشيم، تقبض عليه فتهشمه.
وقال عكرمة: وقتادة، الهضيم: الرطب اللين.
وقال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة، وركب بعضه بعضًا، فهو هضيم.
وقال مرة: هو الطَّلْعُ حين يتفرق ويخضر.
وقال الحسن البصري: هو الذي لا نوى له.
وقال أبو صخر: ما رأيت الطلعَ حين يُشق عنه الكمّ، فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض، فهو الهضيم.
وقوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قال ابن عباس، وغير واحد: يعني: حاذقين. وفي رواية عنه: شرهين أشرين. وهو اختيار مجاهد وجماعة. ولا منافاة بينهما؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي: أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا.
{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} يعني: رؤساءهم وكبراءهم، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق.